فصل: تفسير الآية رقم (48):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (48):

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)}
هذه من أرجي الآيات في كتاب الله، ولذلك فحينما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما موجبات الإيمان؟ أي ما الذي يعطينا الإيمان؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة».
وعن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة».
ونحن نقول إن من يشرك بالله فهو يرتكب الخيانة العقدية العظمى، وقد أخذنا هذا المصطلح من القوانين الوضعية، وإن كانت القوانين الوضعية ليس غرضها أن تؤكد قضايا دينية، لكن غفلتهم تجعلنا نلتقط منها أنها تؤكد القضايا الدينية أيضاً. هب أن جماعة قاموا بحركة، وبعد ذلك استغل واحد منهم الحركة في نفع خاص له، وواحد آخر استغل الحركة في أن تكون له لا للآخر، أي ينقلب عليه، فالأول القائم على النظام يسميها خيانة عظمى، أما من لا يقاوم بغرض خلع الحاكم ولكنّه يظلم الناس فقد يعاقبه الحاكم على ما حدث منه وليس على الخيانة العظمى. إذن ففي قانون البشر أيضاً خيانة عظمى، وفيه انحراف وهو الذي لا يتعرض للسيادة، لكن أي حركة تتعرض للسيادة يكون فيها قطع رقاب، وكل أمر آخر إنما يؤخذ بدرجة من العقوبة تناسب ذنبه.
فالحق سبحانه وتعالى يوضح: أصل القضية الإيمانية أن الله سبحانه وتعالى يريد منكم أن تعترفوا بأنه الإله الواحد الذي لا شريك له، وحين تعترف بأنه الإله الواحد الذي لا شريك له. فأنت تدخل حصن الأمان، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (أشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك منهما إلا دخل الجنة).
وأبو ذر عندما قال للنبي في محاورة بينهما حول هذه الآية، قال له: (ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق، قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق (ثلاثا)) ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر.
لقد كان أبو ذر غيوراً على حدود الله، فهل ساعة قال رسول الله: على رغم أنف أبي ذر؛ هل هذه أحزنت أبا ذر؟ لا لم تحزنه، ولذلك عندما كان يحكيها ويقولها: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن رغم أنف أبي ذر وهو مسرور، لماذا؟ لأنها فتحت باب رحمة الحق، لأنه إذا لم يكن هذا فما الفارق بين من اعتقدها وقالها وبين من لم يقلها؟ فلابد أن يكون لها تمييز.
وكل جريمة موجودة في الإسلام- والحق سبحانه قد جرمها- فهذا يعني أنها قد تحدث. مثال ذلك.. يقول الحق تبارك وتعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38].
وهذا يعني أنه من الجائز أن يسرق المؤمن، وكذلك قد يزني في غفلة من الغفلات، وفي أسس الاستغفار يأتي البيان الواضح: من الصلاة للصلاة كفارة ما بينهما، الجمعة للجمعة كفارة، الحج كفارة، الصوم كفارة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تُغْشَ الكبائر».
أي أن ربنا قد جعل أبواباً متعددة للمغفرة وللرحمة، وهو سبحانه يقول: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} وهذه المسألة ليست لصالحه إنما لصالحكم أنتم حتى لا تتعدد آلهة البشر في البشر ويرهق الإنسان ويشقى من كثرة الخضوع لكل م كان قويا عنه، فأعفاك الله من هذا وأوضح لك: لا، اخضع لواحد فقط يكفك كل الخضوع لغيره، واعمل لوجه واحد يكفك كل الأوجه، وفي ذلك راحة للمؤمن.
إن الإيمان إذن يعلمنا العزة والكرامة، وبدلاً من أن تنحني لكل مخلوق اسجد للذي خلق الكون كله بصفات قدرته وكماله، فلم تنشأ له صفة لم تكن موجودة هل أنتم زدتم له صفة؟ لا. فهو بصفات الكمال أوجدكم وبصفات الكمال كان قيوماً عليكم، فأنتم لم تضيفوا له شيئاً، فكونك تشهد أن لا إله إلا الله. ما مصلحتها بالنسبة لله؟ إن مصلحتها تكون للعبد فحسب.
ولذلك قلنا: إن الحق سبحانه وتعالى يريد من عباده أن يجتمعوا كل أسبوع مرة؛ لأنك قد تصلي فرضاً فرضاً في مصنعك أو في مزرعتك أو في أي مكان، إنما يوم الجمعة لابد أن تجتمع مع غيرك، لماذا؟ لأنه من الجائز أنك تذل لله بينك وبينه، تخضع وتسجد وتبكي بينك وبين الله، لكنه يريد هذه الحكاية أمام الناس، لترى كل من له سيادة وجاه يسجد ويخشع معك لله. وفي الحج ترى كل من له جاه ورئاسة يؤدي المناسك مثلك، فتقول بينك وبين نفسك أو تقول له: لقد استوينا في العبودية، فلا يرتفع أحد على أحد ولا يذل له بل كلنا عبيد الله ونخضع له وحده.
إذن فالمسألة في مصلحة العبد، {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}، لأنه لو غفر أن يشرك به لتعدد الشركاء في الأرض، وحين تعدد الشركاء في الأرض يكون لكل واحد إله، وإذا صار لكل واحد إله تفسد المسألة، لكن الخضوع لإله واحد نأتمر جميعاً بأوامره يعزنا جميعا.. فلا سيادة لأحد ولا عبودية لأحد عند أحد، فقوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}.. هذا لمصلحتنا.
{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ}.
وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال أتى وحشيٌّ وهو قاتل سيدنا حمزة في غزوة أحد، أتى على النبي صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد أتيتك مستجيرا فأجرني حتى أسمع كلام الله فقال رسول الله: «أتيتني مستجيرا فأنت في جواري حتى تسمع كلام الله قال: فإني أشركت بالله وقتلت النفس التي حرم الله وزنيت هل يقبل الله مني توبة؟ فصمت رسول الله حتى نزلت: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان: 68-70].
فتلاها عليه فقال: أرى شرطاً فلعليَّ لا أعمل صالحا، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله فنزلت: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً} [النساء: 48]. فدعا به فتلا عليه قال: فلعلِّي ممن لا يشاء، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله فنزلت: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} [الزمر: 53]. فقال نعم: الآن لا أرى شرطاً فأسلم»
.
إذن فالمسألة كلها تلطف من الخالق بخلقه، واعتبار عمليات الغفلة عمليات طارئة على البشر، وما دام الحق يقنن تقنينات فمن الجائز أنها تحدث، لكن إذا حدثت معصية من واحد ثم استغفر عنها، إياك أن تأتي بسيرتها عنده مرة أخرى وتذكره بها وافرض أن واحداً شهد زوراً، افرض أن واحداً ارتكب ذنباً، ثم استغفر الله منه وتاب. إياك أن تقول له: يا شاهد الزور؛ لأنه استغفر من يملك المغفرة، فلا تجعله مذنباً عندك؛ لأن الذي يملكها انتهت عنده المسألة.
لماذا؟ لكيلا يذلّ الناس بمعصية فعلت، بل العكس؛ إنّ أصحاب المعاصي الذين أسرفوا على أنفسهم يكونون في نظر بعض الناس هينين محقرين. ولذلك نقول: إن الواحد منهم كلما لذعته التوبة وندم على ما فعل كُتبت له حسنة، فعلى رغم أنه ذاق المعصية لكنه مع ذلك تاب عنها، وهذا هو السبب في أن الله يبدل سيئاتهم حسنات، وعندما نعلم أن ربنا يبدل سيئاتهم حسنات فليس لنا أن نحتقر المسرفين على أنفسهم. بل علينا أن نفرح بأنهم تابوا، ولا نجعل لهم أثرا رجعيا في الزلة والمعصية.
{وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً} والافتراء هو الكذب المتعمد. لأن هناك من يقول لك قضية على حسب اعتقاده، وتكون هذه القضية كاذبة، كأن يقول لك: فلان زار فلاناً بالأمس.
هو قال ذلك حسب اعتقاده بأن قالوا له أو رأى أثر للزيارة، على الرغم من أن مثل هذه الزيارة لم تحدث فيكون كذباً فقط، أما الشرك فهو تعمد الكذب على الله وهذا يطلق عليه: {افترى إِثْماً عَظِيماً} لأنه مخالف لوجدانية الفطرة، كأن وجدانية الفطرة تقول: لا تقل إلا ما تعرفه فعلاً وأنت متأكد بل عليك ألا تخالف فطرتك متعمدا وتجعل لله شريكا.
والحق سبحانه وتعالى عندما يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. إما أن تكون هذه الكلمة صادقة فننتهي، وإما ألا تكون صادقة- والعياذ بالله- أي أن هناك أحداً آخر معه، وهذا الآخر سمع أن هناك واحداً يقول: لا إله إلا أنا. أسكت أم لم يسمع؟ إن لم يكن قد سمع فيكون إلهاً غافلاً، وإن كان قد سمع فلماذا لم يعارض ويقول: لا، لا إله إلا أنا، ويأتي بمعجزة أشد من معجزة الآخر ولم يحدث من ذلك شيء إذن فهذه لا تنفع وتلك لا تنفع، فـ:(لا إله إلا الله) حين يطلقها الله ويأتي بها رسول الله ويقول الله: أنا وحدي في الكون ولا شريك لي، ولم ينازعه في ذلك أحد فالمسألة صادقة لله بالبداهة ولا جدال.
{وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً} والافتراء كما يكون في الفعل وفي الكلام ويكون في الاعتقاد أيضاً. (إثم عظيم)، وهذا يعني أن هناك إثما غير عظيم، (الإثم العظيم) هو الذي يُخلّ قضية عقدية واحدة في الكون تشمل الوجود كله هي أنه لا إله إلا الله.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى عوْداً على هؤلاء اليهود: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين...}.

.تفسير الآية رقم (49):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)}
وتقدم أن أشرنا إلى قول الحق: (ألم تر)، فإن كانت الصورة التي يخاطب عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرئية أمامه تكن الرؤية على حقيقتها، وإن لم تكن مرئية أمامه وكان مراد الحق سبحانه أن يعْلمه بها وهي غير معاصرة لرؤياه فالحق يقول: (أَلَمَ تَرَ) يعني: ألم تعلم، وكأن العلم بالنسبة لخبر الله يجب أن يكون أصدق مما تراه العين؛ لأن العين قد تكذبه والبصر قد يخدعه، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} و(التزكية) هي أولاً: التطهير من المعايب وهذا يعني سلب النقيصة، وبعد ذلك إيجاب كمالات زائدة فيها نماء، والتزكية التي زكُّوا بها أنفسهم أنهم قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18].
وجاء الرد عليهم في هذه القضية بقوله الحق: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة: 18].
يعني: إن كنتم أحباءه وأبناءه فلماذا يعذبكم؟ إذن فهذه قضية باطلة، ثم ما فائدة أن تقولوها لنا؟ أنملك لكم شيئاً؟ إذا كنتم تكذبونها على مَن يملك لكم كل شيء وهو الله سبحانه فما لنا نحن بكم؟ والتزكية التي فعلوها أنهم مدحوا أنفسهم بالباطل وبرأوا أنفسهم من العيوب وادعوا أنهم أبناء الله وهم ليسوا أبناء الله وليسوا أحباءه، وقالوا أيضاً: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111].
وتلك أيضاً قضية باطلة، وهنا نسأل: هل إذا زكى الإنسان نفسه بحق تكون تلك التزكية مقبولة؟. نقول: علينا أن نسأل: ما المراد منها؟ إن كان المراد منها الفخر تكن باطلة، لكن تكون التزكية للنفس واجبة في أمر يحتم ذلك. مثاله: عندما تركب جماعة زورقاً ويكون القائد أو من يجدف أو يمسك الشراع متوسط الموهبة، ثم قامت عاصفة ولا يقوي متوسط الموهبة على قيادتها هنا يتقدم إنسان يفهم في قيادة الزوارق أثناء العواصف ويقول لمتوسط الموهبة: ابتعد عن القيادة فأنا أكثر فهماً وكفاءة وقدرة منك على هذا الأمر ويزحزحه ويمسك القيادة بدلاً منه، هذه تزكية للنفس، وهي مطلوبة؛ لأن الوقت ليس وقت تجربة، وهو يزكي نفسه بحق، إذن فهناك فرق بين التزكية بالباطل وبين التزكية بالحق.
ونحن نعلم قصة سيدنا يوسف، ونعلم قصة رؤيا الملك حيث رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف!! وكان المفروض العكس، انظر إلى الملحظية؛ لأن سنين الجدب ستأكل سنين الخصب، لكن من الذي يتنبه إلى رموز الرؤيا. فتعبير الرؤيا ليس علماً. بل هبة من الله يمنحها لأناس ويجعلهم خبراء في فك رموز- شفرة- الرؤيا، ودليل ذلك أن الملك قال هذه الرؤيا للناس فقالوا له: {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ}، و(أضغاث) مفردها (ضغث) وهو الحشيش المخلوط والمختلف، لكنهم أنفصفوا فقالوا: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بِعَالِمِينَ} [يوسف: 44].
لقد أنصفوا في قولهم. لأن الذي يقول لك: لا أعلم فقد أفتى، فما دام قد قال: لا أدري فسيضطرك إلى أن تسأل لكن سواه، إن قال لك أي جواب فستكتفي به وتتورط، إذن فمن قال: لا أدري فقد أجاب. فهم عندما قالوا: أضغاث أحلام فقد احتالوا واحتاطوا لأنفسهم أيضا وقالوا: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بِعَالِمِينَ}، وكان الحق سبحانه وتعالى قد صنع التمهيد ليوسف وهو في السجن عندما دخل عليه الفتيان: {وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 36].
ما الذي جعل الفتيين يعرفان أن يوسف المسجون هذا يعرف تأويل الأحلام؟ لقد قالا وأوضحنا العلة: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} [يوسف: 36].
ومعنى ذلك أنهما شهدا سمته وسلوكه، وعرفا أنه إنسان مسالم، فلما حَزَبَهما واشتد عليهما أمرٌ يتعلق بذاتهما قالا: لا يوجد أحسن من هذا الإنسان نسأله، وقلت ولا أزال أكررها: إن القيم هي القيم، والصادق محترم حتى عند الكذاب، والذي لا يشرب الخمر محترم عند من يشرب بدليل أنهما عندما حَزَبهما أمر قالا: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين}.
وهل يحكم واحد على آخر أنه محسن إلا إذا كان عنده مقياس يعرف به الحسن ويميزه عن القبح؟ وعندما قالا ذلك الأمر لسيدنا يوسف، كان من الممكن أن يجيبهما إلى تأويل رؤياهما، ولكن هذه ليست مهمته، بل فكر: لماذا لا يستغل هو حاجتهما إليه لأمر يتعلق بشخصيهما، وبعد ذلك ينفذ إلى مرادة هو منهما قبل أن ينفذا إلى مرادهما منه، فهو نبي ومن سلالة أنبياء فأوضح لهما: وماذا رأيتما من إحساني؟ إن عندي أشياء كثيرة: {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا} [يوسف: 37].
فقد زكى نفسه، لكن انظروا لماذا زكى نفسه؟ هو يريد أن يأخذ بيدهما إلى ربه هو، بدليل أنه قال: {ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي} [يوسف: 37].
إذن فالتزكية هنا مطلوبة، وقد ردّها لله، وأعلن أن تلك ليست خصوصية لي، بل كل واحد من خلق الله يستطيع أن يكون مثلي: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله} [يوسف: 37].
وبعد ذلك قال: {واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38].
إذن فمن الممكن أن تكونوا مثلي إذا ما اتبعتم هذا الطريق، بعد ذلك قال لهم: {أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} [يوسف: 39].
إذن فهو زكى نفسه أمامهما لكي يأخذهما إلى جانب من زَكَّى، وهو الحق سبحانه وتعالى، وبعد ذلك عندما علم الملك قال: ائتوني به أستخلصه لنفسي، ويكون مقرباً مني. ثم بعد ذلك جاءت سنون الجدب التي تنبأ بها أولاً في تفسير الرؤيا، وأشار عليهم بضرورة الادخار من سنين الخصب لسنين الجدب، لقد كانت التجربة إخباراً لأشياء ستحدث، فلما وقعت علم أن المسألة ليست تجارب بل هي مسألة دقيقة.
فقال للملك: {اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض} [يوسف: 55].
إذن فقد زكى نفسه، وجاء بالحيثية: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55].
لأن هذه المسألة تحتاج حفظاً وعلماً، فهي أمر غير خاضع للتجريب، فيجرب واحد فيخيب، ويجرب آخر فيخيب، لا، إنها تحتاج لحفظ وعلم، ومثال ذلك أيضاً عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم الغنائم، قال له المنافقون: اعدل يا محمد! فيقول لهم: والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض، فهو يزكي نفسه، إذن فمتى تكون التزكية مطلوبة؟ أولاً: أن تكون بحق، وأن يكون لها هدف عند من يعلم التزكية وإلى من يعطيك التزكية ويثني عليك بما فيك وما أنت أهل له فتكون هذه تزكية صحيحة؛ ولذلك يقول الحق: {فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى} [النجم: 32].
لأنك تزكي نفسك عند الذي سيعطي الجزاء وهو يعلم، إذن فمن الحمق أن يزكي الإنسان نفسه في غير المواقف التي يحتاج فيها الأمر إلى تزكية تكون لفائدة المسلمين لا لفائدته الخاصة، والحق يقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 49].
إنّ الحق سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، فمن الممكن أن واحداً يتصنع ويتكلف في نفسه مدّة من الزمن أمامك، لكن هناك أشياء أنت لا تدركها، لكن ربنا عندما يزكي تكون تزكيته، عن علم وعن خبرة، ومع ذلك أحين يزكون أنفسهم، أهذه محت حسناتهم؟ لا. فعل الرغم من أنهم زكوا أنفسهم فالحق لن يأخذهم هكذا، ويضيع حسناتهم ولكنهم (لا يظلمون فتيلا) وهذه مطلق العدالة.
ونعرف أن القرآن نزل بلسان عربي على نبي عربي، والذين باشروه أولاً عرب، ونعرف أن أغلب إيحاءاته كانت متوافقة مع البيئة، وكان عندهم (النخل) وهي الشجرة المفضلة؛ لأنها شجرة لا يسقط ورقها، وكل ما فيها له فائدة، فلا يوجد شيء في النخلة إلا وفيه فائدة.
عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وهي مثَلُ المسلم، حدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البادية ووقع في نفسي أنها النخلة. قال عبد الله فاستحييتُ، فقالوا: يا رسول الله أخبرنا بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة. قال عبد الله: فحدّثْتُ أبي بما وقع في نفسي، فقال: لأن تكون قلتها أحبُّ إليَّ من أن يكون لي كذا وكذا».
وللنخلة فوائد كثيرة، فكل ما نأخذه منها نجد له فائدة حتى الليف حولها يحمل الجريد نأخذه ونصنع منه مكانس وليفاً ومقاطف وكراسي.
وحينما يطلب سبحانه وتعالى مثالاً على شيء معنوي فهو يأتي بالشيء المحس في البيئة العربية.
{وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} و(الفتيل) من (الفتلة) ومن معناها: الشيء بين الأصابع، فأنت حين تدلك أصابعك مهما كانت نظيفة يخرج بعض (الوساخات مِثل الفتلة)، أو (الفتيل) هو: الخيط في شق نواة البلحة ونواة التمرة، جاء سبحانه وتعالى في القرآن بثلاثة أشياء متصلة بالنواة.
ب (الفتيل) هنا، وجاء ب (النقير): وهو النقرة الصغيرة في ظهر النواة ومأخوذة من المنقار، كأنها منقورة، وجاء ب (قطمير): وهي القشرة التي تلف النواة، مثل قشرة البيض الداخلية وهي قشرة ناعمة، إذن ففي النواة ثلاثة أشياء استخدمها الله. الفتيل و(النقير)، و(القطمير).

والحق يقول: {فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً} [النساء: 53].
إذن فالحق سبحانه وتعالى أخذ من النواة ثلاثة أشياء ويعطينا من الشيء المحس أمامنا أمثالاً يراها العربي في كل وقت أمامه ويأخذ الحق أيضاً أمثالا من السماء فيأتينا بمثل: (الهلال)، يقول في الهلال وهو صغير: {كالعرجون القديم} [يس: 39].
فسباطة البلح فيها شماريخ، وفيها يد تحمل الشماريخ، فهذا اسمه (العرجون)، والعرجون عندما يكون جديداً يكون مستقيماً، لكنه كلما قَدُمَ ينثني وينحني، فجاء لهم من الهلال في السماء وأعطاهم مثالاً له في الأرض (كالعرجون القديم)، والعرب قد أخذوا أمثالاً كثيرة، لكن هناك حاجات قد لا يُتنبه إليها مثل قول العربي:
وغاب ضوء قُمَيْر كنت أرقبه ** مثل القُلاَمَة قد قُدَّتْ من الظُّفر

فساعة تقص أظافرك تجدها مقوسة. لكن هذه المسألة لا يتنبه لها كل واحد، فهو جاء بشيء واضح وقال:: (كالعرجون القديم) إذن فالحق سبحانه وتعالى حين يعطي مثالاً لأمر معنوي فهو يأتي من الأمر المحس أمامك ليقرب لك المعنى، وعندما تأكل التمرة لا تلتفت إلى الفتيلة مما يدل على أنها شيء تافه، والنقير والقطمير كذلك. إذن فربنا أخذ من النواة أمثلة، وأخذ من النخلة أمثلة كي يقرب لنا المعاني. {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}.
ويقول الحق بعد ذلك: {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ...}.